الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان (80 هـ – 150 هـ)
اسمه ونسبه:
أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطى الفارسي، وهو المشهور، وعلى هذا فهو فارسي النسب، وقد كان جده من أهل كابل، وأسر عند فتح العرب لهذه البلاد، واستُرق لبعض بني تيم بن ثعبلة، ثم أُعتق.
ولكن يذكر إسماعيل أخو عمر هذا أن أبا حنيفة هو النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان.
- مولده:
ولد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة، سنة ثمانين على القول الراجح، وهو ما ذكره الخطيب في روايته عن إسماعيل حفيد أبي حنيفة حيث قال:
“ولد جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو من الله تعالى أن يكون قد استجاب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فينا”.
- نشأته:
نشأ أبو حنيفة بالكوفة، وعاش أكثر حياته فيها، في أسرة مسلمة، صالحة غنية كريمة، ولقد اتجه أول حياته إلى حفظ القرآن الكريم، وكان يختمه مرات كثيرة في رمضان، وقد جاء من عدة طرق بروايات مختلفة: “أنه أخذ القراءة عن الإمام عاصم القراء السبعة”.
كانت أسرته تتاجر بالحرير، ولكنه مال في وقت فراغه إلى العلم، وخاصة بسبب انتشار العلم الشرعي على يد الصحابة والتابعين، وكثرة النقاشات مع الفرق المنحرفة.
- طلبه للعلم:
يقول أبو حنيفة رضي الله عنه: مررت يوما على الشعبي وهو جالس، فدعاني، فقال لي: إلى من تختلف (أي تكرر الزيارة)؟
فقلت: إلى السوق.
فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيتُ الاختلاف إلى العلماء.
فقلت له: أنا قليل الاختلاف إلى العلماء.
فقال لي: لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم، ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة.
قال: فوقع في قلبي قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم، فنفعني الله بقوله.
- أساتذته:
- حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ): انتقل أبو حنيفة رحمه الله بكليته إلى شيخه حماد، الذي علمه الفقه حتى بزّ أقرانه، وتجاوز أمثاله وسابقيه في حلقة شيخه لحفظه وأدبه، حتى أدناه منه شيخه فجعله في صدر حلقته، والتزم عنده، وانقطع إليه ثماني عشرة سنة.
– وتلقى أبوحنيفة رضي الله عنه كذلك عن أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان محباً لهم حب تعظيم، ومن هؤلاء الأئمة:
– محمد الباقر : وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه، أبو جعفر الباقر.
– عبدالله بن الحسن: وهو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي، وكان محدثاً ثقة، روى عن أبيه وأمه، وعن ابن عم جده عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، والأعرج وعكرمة.
– جعفر الصادق: وهو الإمام جعفر بن محمد المشهور بالصادق، لصدقه وفضله، كان فقيهاً عظيماً، ومحدثاً من أئمة أهل السنة والجماعة.
تلقى أبوحنيفة رضي الله عنه العلم من نحو أربعة آلاف شيخ، بين مكثر ومقل، وكانوا من فرق ومذاهب مختلفة.
ومن هؤلاء الذين أثروا في حياته:
(سعيد بن جبير – عطاء بن أبي رباح – نافع مولى ابن عمر) رضي الله عنهم أجمعين.
- سماته الشخصية:
كان رحمه الله تعالى أسمر اللون مع ميل إلى بياضه، ربعة من الناس (ليس بالطويل ولا بالقصير) إلى الطول أقرب، جميل الصورة، مهيب الطلعة، طويل اللحية، وقوراً، يتأنق في ثوبه وعمامته ونعليه، حسن المنطق، حلو النغمة فصيحا، كثير التطيب يعرف به إذا ذهب وإذا جاء، نحيفا ما أبقى عليه خوفه من الله تعالى وطول مراقبته وكثرة عبادته فضلا من حلم.
وكان ابن المبارك يتعجب من قدرة الإمام أبي حنيفة على جمع الزهد والورع والعلم، وفي الوقت نفسه التجارة والغنى والأناقة، ولذلك كان يقول في مجلسه: كان أبو حنيفة آية.
قال بكير بن معروف: كنت بطانة أبي حنيفة في السفر والحضر، وأشهده في الليالي في منزله، وكان قل ّ ما يستتر علي أمر من أموره، فما رأيت أحداً أكثر اجتهاداً منه، صائماً بالنهار، قائماً بالليل، تالياً لبيان الله، خاشعاً، دائباً في طاعة الله، محتسبا في التعليم، وفي تنوير ما يشكل على الناس من المعاني، لا أقدر أن أصفه كنه صفته _أي حقيقة ذلك_ فرحمه الله رحمة واسعة.
قال الحسن بن صالح: كان أبو حنيفة شديد الورع، مجانباً للحرام، تاركا لكثير من الحلال مخافة الشبهة، ما رأيت فقيها قط أشد صيانة منه لنفسه وعلمه، وكأن جهازه إلى قبره.
كان أبو حنيفة رحمه الله لا يذكر أحدا بسوء، ولا يقصده بأذى، ولو في مقابل مقالة قيلت فيه.
يقول بكير بن معروف: قلت لأبي حنيفة: الناس يتكلمون فيك، ولا تتكلم أنت في أحد؟! فقال: هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
- فقه أبي حنيفة:
الأدلة الفقهية عند أبي حنيفة سبعة:
(الكتاب – السنة – أقوال الصحابة – الإجماع – القياس – الاستحسان – العرف)
هل خالف أبو حنيفة السنة؟
رمي أبو حنيفة رحمه الله تعالى في حياته بمخالفة السنة، فقال في نفي هذه التهمة عن نفسه :” كذب والله وافترى علينا من يقول إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى قياس؟”.
بل قد صرح – رحمه الله – بأنه لا يقيس إلا عند الضرورة الشديدة، فقد كان يقول: “نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً، قسنا حينئد مسكوتاً عنه، على منطوق به”.
كان أبو حنيفة رحمه الله كثير الرحلة، فقد حج كما يقول الرواة نحو خمس وخمسين حجة، وهو عدد يدل على الكثرة، ولا يخلو من مبالغة، وكان في حجه يدارس ، ويذاكر، ويروي، ويفتي، فهو في مكة يلتقي بعطاء بن أبي رباح، وفي أول مرة التقى به، يسأله عطاء: من أين أنت؟ فيقول له: من أهل الكوفة، فيقول له عطاء: من أهل القرية الذين فرقوا دينهم شيعاً؟ فيقول له: نعم، فيسأله عطاء: فمن أي الأصناف أنت؟ فيقول: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بذنب، فقال له عطاء: عرفت فالزم.
قال علي بن هاشم: كان أبو حنيفة كنز العلم، ما كان يصعب من المسائل على أعلم الناس كان سهلاً على أبي حنيفة.
وقال زفر – رحمه الله تعالى-: كان كبراء المحدثين مثل زكريا بن أبي زائدة، وعبدالملك بن أبي سليمان، والليث ابن أبي سليم، ومطرف بن طريف، وحصني بن عبد الرحمن، وغيرهم يختلفون إلى أبي حنيفة، ويسألونه عما ينوبهم من المسائل ويشتبه عليهم من الحديث.
وكان ينظر إلى نفوس تلاميذه، فيتعهدها بالرعاية، فإذا وجد في أحدهم إحساسا بالعلم يمازجه غرور، أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات، يثبت بها أنه لا زال في حاجة إلى فضل من المعرفة يأخذها عن غيره.
- تلاميذه:
- أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري نسباً، والكوفي منشأ وتعلماً ومقاماً، ولد سنة 113 هــ وتوفي سنة 182 هــ .
- محمد بن الحسن الشيباني: ويكنى أبا عبد الله، ونسبه إلى شيبان بالولاء، لا بالنسب الأصيل، ولد سنة 132 هـ وتوفي سنة 189 هـ ، وكان عمره يوم مات أبو حنيفة نحو الثامنة عشرة.
- زُفر بن الهذيل: هو أقدم صحبة لأبي حنيفة من صاحبيه أبي يوسف ومحمد، ولكنه توفي وعمره ثمان وأربعين سنة عام 158 هــ .
- وفاته رحمه الله تعالى:
جاء في المناقب لابن البزازي: أن أبا حنيفة بعد أن حُبس وضِّيق عليه مدة، ثم كلم المنصورَ بعضُ خواصه، فأُخرج من السجن، ومُنع من الفتوى والجلوس للناس، والخروج من المنزل، فكانت تلك حالته إلى أن توفي.
- غسله:
روى الموفق بسنده إلى عبد الله بن واقد، قال: غسل الحسن بن عمارة أبا حنيفة، وكنتُ أصب الماء عليه، فرأيت جسمه جسماً نحيفاً ، قد أذابه من العبادة والجهد، فلما فرغ الحسن من غسله، مدح أبا حنيفة بكلمات وذكر بعض خصاله، وتكلم بكلمات أبكى الجميع، فلما رُفعت جنازته، لم أر باكيا أكثر من يومئذ.
وكانت الكلمات التي تكلم بها الحسن: “رحمك الله وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء.
- دفنه:
كان الإمام رحمه الله تعالى، قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران خارج بغداد – لأن أرض بغداد غصب في فقهه (وهي قضية تاريخية مختلف فيها)- فحُمل إلى الخيزران، وحضر جنازته جمع غفير، قُدّر بخمسين ألف رجل، وصُلي عليه ست مرات لكثرة الناس، آخرها صلاة ولده حماد.
وجاء المنصور فصلى على قبره، ومكث الناس الذين لم يحضروا الجنازة يصلون على قبره أكثر من عشرين يوما.
ولما بلغ المنصور أن أبا حنيفة أوصى أن يدفن هناك – ُ حيث دُفن- قال: من يعذرني من أبي حنيفة حياً وميتاً؟ (أي لأنه أفتى بأن بغداد أرض مغصوبة مما ضايق الخليفة منه ميتاً بعدما كان متضايقا منه حياً لعدم موالاته للدولة لما رآه من ظلم فيها).
قال أبو يوسف: مات أبو حنيفة في النصف من شوال سنة 150هـ، رحمه الله تعالى.
المصدر: الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان
تأليف: د. طارق السويدان
الناشر: شركة الإبداع الفكري للنشر والتوزيع